14 كانون الأول 2021 المدن :المصدررصد الموقع :الكاتب
عشرون عاماً مرّت منذ ظهور فيلم "منبوذ"، من بطولة توم هانكس وإخراج روبرت زيميكس، لكن الممثل المخضرم ما زال قادراً على تقديم تلك الأداءات المنفردة وحمل أفلام كاملة بمفرده، كما يظهر في فيلمه الأخير "فينش"(*). الطريقة الأكثر وضوحاً لتلخيص هذا الفيلم ستتمثّل في وصفه بأنه "استنساخ لفيلم "منبوذ" مع تغيير أحداثه لتقع في أميركا ما بعد نهاية العالم. من السهل تخيُّل شخصية تشاك نولاند (بطل "منبوذ")، في ظرف آخر معقد، حيث لا خيار أمامه سوى الوحدة ومحادثة كلب وروبوت. يمكن لنسخة هزلية من هذا الفيلم أن تسير على نحوٍ يضطلع فيه هانكس بالبطولة أيضاً، إنما مع قيامه بعمل وجهٍ تعبيريّ مفاده "لا أصدّق أن عليّ التعامل مع هذا الأمر مرة أخرى".
بعيداً من الهزل، يمكن القول إن هانكس يحبّ بالفعل تلك المشاريع الفيلمية التي يمثّل فيها منفرداً. عند مشاهدته، قد يفترض المرء أن هذا فيلم أُنتج في خضم جائحة، حيث لا يوجد سوى ممثل واحد فقط طوال الأحداث، لكن هذا ليس هو الحال. صُوِّر "فينش"، المعروف باسم BIOS، حتى وقت قريب نسبياً ثم أعيدت تسميته قبل بضعة أشهر، في العام 2019، قبل أن يختبر هانكس بنفسه تأثيرات كورونا بشكل مباشر، كونه أحد المشاهير الأوائل المصابين بالفيروس. في ما يتعلّق بالوباء وتأثيره في الفيلم نفسه، فقد تقرر تأجيل إصداره وتغيير منصّة إطلاقه: كان يُفترض الذهاب إلى دور السينما عبر شركة يونيفرسال، لكن انتهى به الأمر إلى مُباعاً لشركة "Apple TV" ليكون الفيلم الأكثر طموحاً للشركة حتى الآن. الجيّد لآبل، ليس جيداً للفيلم بالضرورة، بالنظر إلى أن "فينش" قصة نموذجية يمكنها الاستفادة من أبعاد الشاشة الكبيرة.
الفيلم من إخراج صانع الأفلام البريطاني من أصل أرجنتيني، ميغيل سابوشنيك، الذي حصل على تقدير واسع لعمله الطموح في إخراج بضع حلقات من سلسلة "لعبة العروش"؛ ويبدأ من منتصف الأحداث. لا نعرف ما حدث، لكن الطرق التي يسافر فيها فينش (هانكس) بشاحنته تبدو وكأنها خارجة من عالم فيلم "ماد ماكس"، حيث استحالت الأعمال والأشغال دماراً وهُجرت المباني السكنية، والمدينة التي يقود عبرها أضحت صحراء حضرية. هناك خصوصية أخرى: درجة الحرارة هنا تدور عادة في فلك الـ60 درجة مئوية، وهناك إشعاع شمسي في كل مكان، والخروج إلى النهار يكاد يكون حكماً على مرتكبه بالموت.
يسافر فينش في الأرجاء بحثاً عن الطعام، بعدمل قام بمسح الخريطة بأكملها تقريباً وتأشير الأماكن الآمنة، أو التي لا يوجد فيها شيء، خصوصاً البشر. بقوامٍ هزيل وناحل ولحية طويلة نسبياً وصحّة معتلة بالقدر ذاته، ما زال يمكنه -حسناً، هو توم هانكس في النهاية- عزف الأغاني وإضفاء القليل من "الطاقة" على الموقف، حتى لو كان هناك بين الحين والآخر عاصفة رملية تأخذ كل شيء في طريقها. شريكه الدائم في المحادثة هو كلب يُدعى غوديير، وستذكّر العلاقة المشاهدين الأكبر سناً بفيلم هانكس أيضاً المعنون "تِرنر وهوتش" من العام 1989. نعلم أن هانكس وكلباً لطيفاً قد يكونان كافيين لإنجاز فيلمٍ بأكمله، لكننا سرعان ما ندرك أن الرجل، العالق في خراب ما بعد نهاية العالم، لديه خطط أخرى. يعيش فينش في عالم ما بعد الكارثة، بدأب الناجين ورغبة البقاء، واستطاع على مدار عشرة أعوام أن يبني لنفسه عالماً حميمياً مع رفيقه المخلص ذي الفراء، لكنه يخشي أيضاً ألا يجد رفيقه مَن يعتني به بعد رحيله. لذلك قام ببناء روبوت لتولّي المهمة.
ففيما يمتلك بالفعل روبوتاً صغيراً يشبه Wall-E يلتقط الأشياء ويدخل أماكن ممنوعة عليه بسبب أشعة الشمش المميتة، بمجرد عودة فينش إلى مخبئه الآمن (يمكن للمتفرج الإدراك بأنه مهندس ومخترع نوعاً ما أو كليهما). نراه يقضي أيامه في تجميع روبوت أكثر كلاسيكية، يتحدث ويمشي ويطوّر ذكاءه. بعد بضع محاولات فاشلة، ينجح في تشغيله، ثم يرافقه الرجل/الروبوت الذي سيُعرف في ما بعد باسم "جيف". يتعلّم الروبوت ( يلعب دوره كاليب لاندري جونز) بشكل سريع، أسرع من المتوقع. في وقت قصير جداً، يتكلّم ويمشي ويتحادث، وحتى أنه يبدأ في فهم فكاهة فينش ومفارقاته واستعاراته!
منذ ذلك الحين، يصبح الفيلم تذكيراً بقصص الكتاب المقدّس، حيث يجب على البطل وكلبه وروبوتاته مغادرة المخبأ في مواجهة كارثة طبيعية وشيكة، يعلم أنها ستدمّر موئله الأخير. في الشاحنة، قرروا التوجه إلى سان فرانسيسكو، لاعتقادهم أن الأمور قد تكون أفضل قليلاً هناك. أو ربما لأسباب أخرى سنكتشفها مع مرور الوقت. ترتسم القصة فيلم طريق ما بعد أبوكاليبتي، يبدأ في التركيز أكثر فأكثر على العلاقة بين فينش وجيف، بشكل أساسي على حاجة الإنسان - الذي ابتكر الروبوت لأسباب محددة جداً - لإيجاد الإنسانية في الآخر الآلي، لـ"تركه يعمل" والوثوق به، وهو الآلة، لمساعدته على المضي قدماً، وليس فقط بمنطق الرحلة المؤقتة والمنتهية.
يعمل الفيلم في منطقة خيال علمي يمكن التعرف عليها في أمثلة سابقة، لكن منطق "فينش"، بعد فترة، يصبح أكثر إنسانية، أقرب إلى الدراما العائلية، حين يغدو قصة عن العلاقات والروابط بين مجموعة يتغيّرون ويكتشفون أشياء عن أنفسهم خلال رحلة طويلة بالسيارة، كما لو أن فينش وروبوته وكلبه كانوا أشبه بتلك المجموعة التي تحاول أن تتعلم كيف تعيش معاً وتساند وتساعد بعضها البعض في ظروف خاصة. بطريقة ما، العلاقة بين فينش وجيف هي علاقة أب وابن، حيث يعرّف النصّ السينمائي، الروبوت بأنه شخص يحتاج إلى التعلُّم، والرجل على أنه "شخصية الأبّ" الذي يعلّم ويتحدّى ويدعم وينتقد ويغضب أيضاً.
هو، في الوقت نفسه، فيلم لا يحمّل نفسه خطابات كبيرة لا قِبَل لبساطته بها، وبهذا المعنى، يعمل بطريقة أكثر كلاسيكية من أفلام حديثة مدافعة عن البيئة مثل "كثيب" أو "الأبديون" تبدو كأنها بحاجة إلى الإعلان كل عشر دقائق إلى "إنقاذ الكوكب" وإبراز العواقب المحتملة لتغيّر المناخ والاحتباس الحراري. بالطبع، ستكون لدى هانكس تلك المونولوغات التمثيلية التي تبدو مصممة خصيصاً لهذا النوع من الأفلام "المنفردة"، لكن بشكل عام لا يتعلّق الأمر بفرد عضلات تمثيلية أو استحضار الدموع، بل بإخبار جيف "قصصاً" تروي قصته بطريقة ما، وتلخّص طريقته في رؤية العالم، التي أصبحت أقسى بسبب الظروف العنيفة التي توجّب عليه اختبارها من أجل البقاء والنجاة.
من بين نقاط الضعف في الفيلم، يمكن للمرء القول إن جيف، في لحظات معينة، يصبح مزعجاً بعض الشيء، مع حاجته المستمرة لرمي البيانات، والتحدث، وقول شيء ما، مثل روبوت كوميدي من أفلام الثمانينيات (لا ننسى أن هذا الفيلم من إنتاج روبرت زيميكس وشركة آمبلين لمؤسسها ستيفن سبيلبرغ، ما يربطه بسمات سبيلبيرغية معيّنة من الثمانينيات) أو أفلام الرسوم المتحركة. لكنه، شيئاً فشيئاً، يفسح المجال لشيء أكثر حميمية وعمقاً وحساسية حتى يصير المصدرالأكبر لكوميديا الفيلم وتأمّله البريء والمتفائل في مستقبل حياة البشر مع الروبوتات الذكية على الأرض.
في أوقات الإنتاجات السينمائية النارية والضخمة، يعود "فينش" إلى أرض الترفيه الشعبي الذي لا يراهن على أمجاد الأهمية الذاتية والأجندات الكبيرة والإبهار، إنما منبع فضائله الأبقى هو النبل. يتمكّن من السير في هذه المنطقة الكبيرة والضخمة، لكن بحميمية، بقصّة عن عالَمٍ على شفا الدمار، لكن، أكثر من أي شيء آخر، عن الحاجة إلى الثقة في بعضنا البعض، إلى فهم أن هذه هي الطريقة الوحيدة ليكون هناك مستقبل محتمل. إن لم يكن لنا، على الأقل للأجيال المقبلة.